الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
من أسماء الله الحسنى الإله:
أيها الإخوة الكرام؛ مع اسم جديد من أسماء الله الحسنى، والاسم اليوم الإله، فقد ورد في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، قال تعالى:
﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)﴾
وقال تعالى:
﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)﴾
أما في السنة فلابد من تمهيد، تعريف سنة النبي عليه الصلاة والسلام هي أقواله وأفعاله وإقراره، أيّ شيء قاله من السنة، وأيّ شيء فعله من السنة، فإذا سمع كلاماً وسكت فهو من السنة، لأنه لا يمكن أن يسكت على خطأ، فإذا سكت معنى ذلك أنه أقرّه، والنبي عليه الصلاة والسلام نقل لأصحابه قول خُبيب حينما قتل.
بالمناسبة سُئل خبيب قبل أن يُقتل: أتحب أن يكون محمد مكانك وأنت في أهلك وعافيتك؟ فقال كلمة لا تنسى، قال: والله ما أحبّ أن أكون في أهلي وولدي، وعندي عافية الدنيا ونعيمها-أي ورود، أزهار، بيت واسع، بالمقاييس المعاصرة، وتكييف، وطعام نفيس، ومركبة فارهة-والله ما أحبّ أن أكون في أهلي وولدي، وعندي عافية الدنيا ونعيمها، ويُصاب رسول الله بشوكة، لذلك قال أبو سفيان: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً.
أيها الإخوة الكرام؛ الإسلام هو الحب، فإذا أُلغي الحب من الإسلام كان جثة هامدة، ألا لا إيمان لمن لا محبة له، لأن الله سبحانه وتعالى بيّن في كتابه الكريم أن أساس العلاقة بين العباد وربهم علاقة حب:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾
فلذلك سنة النبي عليه الصلاة والسلام وحي يوحى:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
فلما قتل خبيب، قبل أن يُقتَل صلى ركعتين وقال:
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمــاً عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ في اللهِ مَصْرَعِي؟
وَذَلِكَ في ذاتِ الإِلَهِ وَإِن يَشـــأ يُبارِك عَلى أَوصالِ شِلـوٍ مُــمَـــــــزَّعِ
وذلك في ذات الإله، من أجل الله عز وجل، لذلك:
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)﴾
فالنبي عليه الصلاة والسلام نقل قول خبيب:
وَذَلِكَ في ذاتِ الإِلَهِ وَإِن يَشـــأ يُبارِك عَلى أَوصالِ شِلــــوٍ مُــمَـــــــزَّعِ
ولم يعترض عليه، إذاً الإله بدليل السنة النبوية من أسماء الله الحسنى.
أيها الإخوة؛ في صحيح البخاري ورد الدعاء التالي:
(( عن ابن عباس أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا قام إلى الصلاةِ مِن جَوفِ الليلِ يقولُ: اللهمَّ لكَ الحمدُ أنتَ نُورُ السمواتِ والأرضِ ومَن فيهِنَّ، ولكَ الحمدُ أنتَ قَيَّامُ السمواتِ والأرضِ ومَن فِيهِنَّ، ولكَ الحمدُ أنتَ ربُّ السمواتِ والأرضِ ومَن فيهِنَّ، ولكَ الحمدُ أنتَ الحقُّ، وقولُكَ الحقُّ، ووَعدُكَ الحقُّ، ولِقاؤُكَ حقٌّ، والجنَّةُ حقٌّ، والنارُ حقٌّ، والساعَةُ حقٌّ، اللهمَّ لكَ أسلَمتُ، وبِكَ آمَنتُ، وعليكَ توكَّلتُ، وإليكَ أنَبتُ، وبِكَ خاصَمتُ، وإلَيكَ حاكَمتُ، فاغفِرْ لي ما قدَّمتُ وأخَّرتُ، وأسرَرتُ وأعلَنتُ، أنتَ إلهي لا إلهَ إلَّا أنتَ. ))
فـالإله من أسماء الله الحسنى بنص القرآن الكريم، وبإقرار النبي عليه أتم الصلاة والتسليم.
لكن أيها الإخوة؛ ما معنى الإله؟ قال علماء اللغة: الإله اسم مفعول، ونحن لغتنا والحمد لله لغة راقية جداً، لغة تصريف، يوجد عندنا فعل، عندنا مصدر، عندنا فعل ماض، فعل مضارع، فعل أمر، اسم فاعل، اسم مفعول، اسم مكان، اسم زمان، اسم آلة، صفة مشبهة باسم الفاعل، لغتنا مبنية على نظام الأُسَر.
أي عرف، المعرفة مصدر، عرف، يعرف، عارف، معروف، اعرف، عرّاف، فهناك جد وهناك أحفاد كثيرون، للتقريب أنت باللغة الإنجليزية تقول: Table طاولة، Book كتاب، Write يكتب، أما باللغة العربية فتقول: مكتب وكتاب وكتابة، من أسرة واحدة، فـالإله اسم مفعول بمعنى المألوه، والمألوه أي المعبود.
أيها الإخوة؛ أصل الفعل أَلِه يأله إلاهةً، والإله هو الله، الآن كل ما اتُّخذ من دون الله معبوداً هو إله عند من اتّخذه، حينما تخضع لشيء، حينما تطيع شيئاً، جهةً، حينما تستسلم لها، لو لم تسمِّها إلها أنت جعلتها إلهاً:
﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)﴾
أيّ جهة تخضع لها، تستسلم لها، تحبها، تتفانى في طاعتها هي إلهك.
بطولة الإنسان أن يكون الله إلهه:
ما البطولة؟ أن يكون الله إلهك، لا أن تكون الشهوة إلهك، لا أن يكون قوي من أقوياء أهل الأرض إلهَك، لا أن يكون الشيطان إلهَك، لابد من جهة تخضع لها، إن لم تكن عبداً لله فأنت عبد لعبد لئيم، لذلك البطولة أن تعبد الله، البطولة أن يكون الله جلّ جلاله إلهك، بمعنى تخضع له، تُحبه، تتفانى في طاعته، هو مرجعك، هو الحكم.
لا معبودَ بحقٍّ إلا الله:
أيها الإخوة الكرام؛ لا معبود بحق إلا الله، هذا معنى: لا إله إلا الله، أي ليس هناك في الكون جهة تستحق أن تعبدها إلا الله:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾
من يستحق العبادة؟ هو الخالق: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾ من يستحق العبادة؟ هو الرب، من هو الرب؟ المُمد، من يُمدّك بالهواء؟ لو أن اجتماعاً على أعلى مستوى في الأرض ضمّ كل الدول، واتّخذ قرار بإنزال الأمطار هل تنزل الأمطار؟ الذي يُمدّك بالماء، بالهواء، يُمدك بالنبات، بالطعام والشراب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾ الخالق يُعبد، الرب يُعبد:
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
اعبُد مَن إليه يرجع الأمر كله،
(( عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. ))
[ أحمد: الهيثمي: مجمع الزوائد: رجاله ثقات ]
عبادةُ الله علّةُ وجود الإنسان:
لذلك أيها الإخوة؛ أكاد أقول: إن العبادة علة وجودك في الدنيا، علة واحدة، للتوضيح أرسلك والدك إلى بلد غربي لتنال الدكتوراه، إلى باريس مثلاً، هذه المدينة الكبيرة العملاقة الصاخبة، فيها مسارح، فيها ملاه، فيها حدائق، فيها مكتبات، فيها أسواق، مترامية الأطراف، وأنت إنسان في هذه المدينة، لو سألناك: ما علة وجودك في هذه المدينة؟ لك في هذه المدينة علة واحدة، سبب واحد لبقائك فيها، هدف واحد في هذه المدينة؛ أن تنال الدكتوراه، فلذلك أخطر سؤال تسأله لنفسك: ما علة وجودي في الأرض؟ الناس يتحركون:
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)﴾
هذا يسعى لكسب المال، ثم يُفَاجأ أن المال ليس بشيء عند الموت، جمع رجلٌ ثمانمئة مليون من القمار، وهو على فراش الموت شعر بالخطر، فطلب أحداً من يعمل في الحقل الديني، هكذا أقول بالضبط، قال له: ماذا أفعل؟ قال له: والله لو أنفقتها كلها لا تنجو من عذاب الله: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ حركة، لكن يا ترى الحركة متوافقة مع الهدف؟ لماذا أنا هنا؟ لماذا أنا في الدنيا؟ هنا السؤال.
أيها الإخوة؛ هذا سؤال يتضح بالمثل التالي؛ ذهب رجلٌ إلى باريس، ونام في الفندق، واستيقظ في صبيحة اليوم الأول، وسأل: إلى أين أذهب؟ ما هذا السؤال؟ نسأله نحن: لماذا أتيت إلى هنا؟ إن أتيت طالباً فاذهب إلى المعاهد والجامعات، وإن أتيت تاجراً فاذهب إلى المعامل والمؤسسات، وإن أتيت سائحاً فاذهب إلى المقاصف والمتنزهات، متى يصح عملك في مكان ما؟ إذا عرفت سرّ وجودك، وغاية وجودك، لذلك لا شيء يعلو في حياة الإنسان على معرفة سرّ وجوده، وغاية وجوده، تجد إنساناً في أعلى درجات العقل يطلب العلم، يبحث عن عمل صالح يرقى به عند الله، يربي أولاده تربية صحيحة، يتعامل مع الناس وفق منهج الله تماماً، هذا عرف سرّ وجوده، وغاية وجوده، لذلك أنت كائن متحرك، ما الذي دفعك إلى الحركة؟ هذه الطاولة لا تتحرك، ليس فيها شهوات، لا تحِبّ طاولة ثانية، بمكانها، لا تأكل، لا تشرب، ليس عندها طموحات، لو تركتها مئات السنين تبقى على ما هي عليه، أما أنت كائن متحرك، لماذا؟ لأن الله أودع فيك حبّ الطعام والشراب، أودع فيك حاجة إلى الجنس، تتزوج، أودع فيك حاجة إلى تأكيد الذات، هذه الحاجات الأساسية، الحاجة إلى الطعام للحفاظ على فردك، عليك بالذات، والحاجة إلى الجنس للحفاظ على النوع، والحاجة إلى تأكيد الذات للحفاظ على الذِّكر، هذه الحاجات الثلاثة تدفعك إلى الحركة، فأنت كائن متحرك، البطولة أن تكتشف ما إذا صحت حركتك أو لم تصح.
أي طالب يوجد عنده امتحان آخر سنة، مادة أساسية، الامتحان مصيري يُبنى على نجاحه تعيينه في منصب، وتأمين دخل، وشراء بيت، والزواج، التعيين وتأمين بيت والزواج كل هذا مبني على نجاحه، وعنده مادة أساسية أخيرة، وأصعب مادة، والامتحان بعد أيام، ما الحركة المناسبة له؟ أن يقبع في بيت، وأن يقرأ الكتاب المقرر، لو أن أصدقاءه الخُلَّص أخذوه إلى مكان جميل، مُطلّ على البحر، والجبل أخضر، والطعام نفيس جداً، وهو يحبهم، جالس مع أصدقاء يحبهم، والمكان جميل، والطعام طيب، لماذا يشعر بانقباض شديد؟ لأن هذه الحركة لا تتناسب مع الهدف القريب.
السعادة في توافق الحركة مع الهدف:
إذاً السؤل الثاني: أنت متى تسعد؟ تسعد إذا جاءت حركتك متوافقة مع هدفك، اسأل تاجراً؛ لا يوجد بيع ولا شراء، جالس كل النهار في هذا المحل، هاتوا شاياً، هاتوا قهوة، هاتوا مجلة، هاتوا جريدة، تجده مسموم البدن، مع أنه مرتاح، لكن الراحة لا تتناسب مع هدف هذا المحل التجاري، أما عندما ينسى أن يتغدى من كثرة البيع فهو أسعد إنسان، لا يجلس دقيقة، على الواقف من محل إلى محل، فلما يكون البيع شديداً يكون معه تعب شديد، يكون التاجر في أسعد لحظاته، يكون في راحة تامة، واسترخاء، وضيافة مستمرة، وأصدقاء، وصحف، ومجلات، تجده في أتعس حالاته، يقول لك: سوق مسموم، لا يوجد شيء، فمتى تسعد؟ إذا جاءت حركتك موافقة لهدفك، ومتى تشقى؟ إذا جاءت الحركة ليست موافقة لهدفك، الآن السؤال: علة وجودنا الوحيدة على وجه الأرض أن نعبده، الدليل:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
ما العبادة؟ بتعريف مختصر: غاية الخضوع لله، وغاية الحب، بالتعريف المفصّل: هي طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تُفضي إلى سعادة أبدية، لابد من أن تعرفه حتى تعبده، أبداً، لذلك أكبر جزء من دينك طلب العلم، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معا فعليك بالعلم، العلة الوحيدة من وجودك على وجه الأرض بنصّ كتاب خالق السماوات والأرض أن تعبده، من هو الخاسر؟
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)﴾
لا شيء يعلو على معرفة الله ومعرفة منهجه:
الإنسان يقول لك: أنا، أنت حياتك متوقفة على قطر شريانك التاجي، ميليمتر وربع، فإذا ضاق هذا الشريان دخلت في متاعب لا يعلمها إلا الله، أول شيء تحتاج إلى قسطرة، ثم يخيرونك نعمل لك زرع شريان أم نعمل لك دعامة؟ يحتار، يسأل أول طبيب، الثاني، أيهما أفضل؟ أيهما أدوم؟ أيهما أصح؟ أيهما أسلم؟ وكل مكانتك، وكل حيويتك ونشاطك وهيمنتك وشخصيتك وحجمك المالي متوقف على سيولة الدم، فإذا تجمد الدم في أي مكان في الدماغ صار هناك شلل، ومع الشلل سُبات، الله كبير.
فأنت وهيمنتك، وعظمتك، وحجمك المالي، ومكانتك، تتوقف هذه المكانة على شيء ثالث، على انضباط نمو الخلايا، فإذا نمت نمواً عشوائياً هذا المرض الذي حيّر أهل الأرض، يصيب الصغار والكبار والشباب والنساء والأطفال والشيوخ، والأقوياء والضعفاء، يصيب كل المخلوقات، وحتى الآن لا يوجد دواء، يقول لك: ورم خبيث، انتهى، مرة كنت عند طبيب قلب جاءه اتصال هاتفي قال له: أي مكان بالعالم وأي مبلغ مؤمن، قال له: والله لا يوجد أمل، بلغ الدرجة الخامسة، لا يوجد أمل، فلذلك علة وجودك الوحيدة أن تعبد الله، والعبادة طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، المعرفة أساس، حينما تأتي إلى مجلس العلم إياك أن تتوهم أن حضورك لهذا المجلس أو لأي مجلس آخر هو استهلاك للوقت، لا، هو استثمار للوقت، أساسها معرفة يقينية، أن تعرف الله، أن تعرف منهجه، أن تعرف الحلال والحرام، أن تعرف الأحكام الشرعية لحرفتك، أنت تاجر أحكام البيوع، أنت طبيب أحكام الجُعالة، طبيب، محام، مدرس، أحكامه أحكام الجُعالة، ليس مطلوباً من الطبيب والمحامي والمدرس إنجاز العمل، مطلوب بذل العناية القصوى فقط، أي كل إنسان له حرفة، أنت متزوج؟ يجب أن تعرف أحكام الزواج، حقوق الزوجة، واجبات الزوج، فلذلك لا شيء يعلو على معرفة الله ومعرفة منهجه.
أنت بالكون تعرفه، وبالشرع تعبده، إذاً معرفة يقينية، طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تُفضي إلى سعادة أبدية ، قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) ﴾
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)﴾
آمن بالله خالقاً لكن ما آمن به عظيماً، وكلما عظّمت الله عز وجل خضعت له، وخشع قلبك له.
إذاً ليس هناك من جهة في الكون تستحق أن تعبدها إلا الله، لا معبود بحقّ إلا الله، معنى لا إله إلا الله الإله المعبود، ألِه يأله إلاهةً، الإله هو الله الذي يستحق أن تعبده:
﴿ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)﴾
العبادة الشعائرية تصح بصحة العبادة التعاملية:
لكن بعد أن شرحت معنى العبادة يوجد عندنا أنواع للعبادة، يوجد عندنا عبادة شعائرية، كالصلاة والصوم والحج، وعندنا عبادة تعاملية، الفكرة الخطيرة أن العبادة الشعائرية لا تصح ولا تُقبَل إلا إذا صحت العبادة التعاملية، أي تركُ دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد الإسلام، النبي سأل أصحابه،
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، قَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي، مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلاةٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، فَيُقْعَدُ، فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ. ))
(( عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا. ))
هذه الصلاة، الصيام:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ. ))
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالعَطَشُ. ))
الحج: من حجّ بمال حرام، ووضع رجله في الركاب وقال: لبيك اللهم لبيك، يُنادى: أن لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك، الزكاة:
﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)﴾
النطق بالشهادة: من قال لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة، قيل: وما حقها؟ قال: أن تحجزه عن محارم الله.
علة وجودنا في الأرض أن نعبده، وإذا ربحنا الأبد نكون ربحنا الربح الحقيقي:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾
قائد القوات الإسلامية في دمشق أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة، دخلوا على بيته فإذا غرفة، في الأرض جلد غزال، وقِدر مغطاة برغيف خبز، وسيفه معلق، قالوا: ما هذا؟ قال: هو للدنيا، وعلى الدنيا كثير، ألا يُبلغنا المقيل؟ أي لا يوجد إنسان له قريب ساكن بأرقى أحياء دمشق، وتوفى، وذهب للتعزية، مَن صمم هذه التزيينات؟ من اشترى هذه الثريات؟ من اشترى هذا السجاد؟ أين هو الآن؟ موعظة كبيرة جداً، والموعظة الأشد أنه ما من نعوة إلا كُتِب عليها: وسيشيع إلى مثواه الأخير، معنى المثوى الذي نعيشه الآن مؤقت، اعتن به ما شئت، لابد من تركه، أيّ إنسان ساكن ببيت في يوم من الأيام يخرج منه أفقياً مرة واحدة، ولن يَعُود، اعتن بدنياك ما شئت لكن لابدّ من أن تخرج في احد الأيام من البيت أفقياً ولن تعود، اهتم بهذه الساعة، والله ما رأيت على وجه الأرض من هو أعقل ولا أذكى ولا أكثر نجاحاً وتفوقاً وفلاحاً ممن أعدّ لهذه اللحظة التي لابد منها، أبداً، كل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت.
والليل مهما طال فلابد من طلوع الفجر والعمر مهما طال فلابد من نزول القبر
[ صالح بن محمد بن عبد الله ]
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبور جنــــازة فاعـلم بأنـك بعدهـا محمـول
ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا بن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة، ما مضى فات، والمُؤمّل غيب ولك الساعة التي أنت فيها.
(( عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت الدُّنيا همَّه، فرَّق اللهُ عليه أمرَه، وجعل فقرَه بين عينَيْه، ولم يأْتِه من الدُّنيا إلَّا ما كُتِب له، ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه، جمع اللهُ له أمرَه، وجعل غناه في قلبِه، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ. ))
[ السلسة الصحيحة: خلاصة حكم المحدث: إسناده جيد رجاله ثقات ]
وما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته، فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، وما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطّعت أسباب السماء بين يديه.
أيها الإخوة؛ تفكُّرُ لحظة واحدة ينقلك من الضياع إلى الوجدان.
الملف مدقق